الاثنين، 21 يوليو 2014

تبخيس المعارف والقيم في المناهج الدراسية المغربية


نقدي لتجويد منظومتنا التربوية

عبد السلام خلفي*

تقديم

من المعلوم أن المدرسة المغربية تعتبر من أكثر المدارس انغراساً في تربة حضارية تتميز بالتعدد والتنوع؛ ومن المعلوم أيضاً أن النصوص التربوية الرسمية التي تأسست عليها مناهج هذه المدرسة هي من أكثر النصوص استعادة لفلسفة القيم في أبعادها الكونية، وذلك من حيث ترسيخ الهوية الوطنية المتنوعة والتفتح على المكاسب الحضارية للعالم الجديد؛ لكننا على مستوى الممارسة نلاحظ أن هناك شرخاً كبيراً بين النوايا النظرية كما يعبر عنها المسؤولون والمخططون وبين واقع القيم كما تُقدم به وكما يتم تفصيلها في البرامج التربوية؛ فهذه الأخيرة، عندما نتأملها، نجدها ليست، في النهاية، إلا اختزالاً وتأحيداً لهوية تتحدد غالباً في القيم العربية الإسلامية كما أنتجتها الإيديولوجيات القومية والإسلام السياسي بالشرق العربي؛ كما أن قيم الانفتاح تتحدد أساساً في التعرف على لغات الغرب ومعاداة الثقافات والفلسفات العلمية التي أنتجتها وتنتجها هذه اللغات. ولهذا فإن المطلع على مختلف الأدوات البيداغوجية التي يتم إنتاجها، في هذا الصدد، وبخاصة منها الكتب المدرسية، سيجعله يكتشف أن القائمين على هذا الورش لا يعملون إلا في اتجاه تغييب كل ما يتعلق بالمعارف والقيم المحلية الوطنية بجميع معطياتها الثقافية والانتروبولوجية والتاريخية والفنية والأدبية واللسانية إلخ. بل والأدهى من ذلك أنهم عندما يريدون أن يقدموا قليلاً من هذه المعارف والقيم نراهم يُقدمونها كما لو أنها نتاج لحضارات أجنبية أو أنها منتوج ثقافي وتاريخي منحط لا يرقى إلى ما أتت به الحضارة العربية الإسلامية. ومن جهة أخرى يعملُ هؤلاء المخططون التربويون لتحصين هذه الحضارة العربية الإسلامية أو للتأكيد على صورتها المثالية التي لا تشوبُها الشوائب على تقديمها دائما في حالة صراع وحرب دائمة مع الحضارة الغربية التي تُقدمُ بوصفها حضارة الاستعمار والمؤامرات. فيتم التركيز على لحظات الحروب لتبرير سياسات الانغلاق ورفض الآخر وحقن الأجيال بالعداوات السرمدية، كما يتم تهميش لحظات التفاعل السلمي القائم على التبادل المعرفي والاقتصادي والثقافي والعلمي لتبرير مركزية ما يُسمونه بالعالم العربي الإسلامي الذي سرق منه هذا الغربُ كل هذه المعارف.

وهكذا فإن أغلب المعطيات المعرفية المختارة تحيل بشكل أو بآخر على رقي وعراقة وقوة الحضارة العربية الشرقية في مقابل حضارة مغربية محلية باهتة وهزيلة وفقيرة ومنحطة ومبتورة تاريخياً وتابعة للحضارة الأقوى والمشروعة التي تجدُ لها امتداداً في زمنية الخطاب الإلهي المُقدّس. إذ بحكم التكوين الذي يتلقاه مؤلفو الكتب المدرسية وبحكم التعليمات التي يتلقونها وبحكم الإيديولوجيات القومية والإسلامية التي تشربوها لعقود طويلة، نجدهم يهيئون لمدرسة تنتج مواطنين منسلخين نهائيا عن انتمائهم الوطني ويرتمون بشكل كامل في انتماءات خارجية وأممية لا تعترف بالحدود إلا في شكلها العرقي (القومي) أو في شكلها الديني (الإسلامي)؛ فيؤصلون لقيم الأممية العابرة للحدود الوطنية ويجعلون من الوطنية نتاجاً تابعاً ومؤسساً على التمايزات العرقية الانصهارية والأفضليات الدينية التي تُدين بشكل واضح قانون المواطنة المؤسس على الانتماء للأرض وللحضارة التي أنتجتها تلك الأرض؛ وعلى هذا الأساس لا يتورع هؤلاء المؤلفون عن التدخل بشكل سافر لفبركة تاريخ على المقاس العرقي والديني، فيقدمون محمداً الخامس، مثلاً، بوصفه رمزاً من رموز العروبة والإسلام وليس رمزاً وطنياً لكل المغاربة بمختلف توجهاتهم الدينية واللسانية والعرقية؛ ونراهم يُسقِطون، في مستوى آخر، حقباً تاريخية بكاملها من تاريخ المغرب لكونها لا تتلاءم مع عروبة الوطن في تبعيته لعروبة الشرق؛ كما أنهم يسكتون بشكل مثير للاستغراب وللفضائحية العلمية عن كل الاكتشافات الأركيولوجية التي تثبت عراقة هذا الشعب في التربة الإفريقية لكي يؤكدوا أن التاريخ لم يبدأ إلا مع عروبة الفتح أو  عروبة إدريس الأول، بل إنهم يقفون بعنف في وجه كل توجه بيداغوجي يتوخى استغلال التراث الوطني الشفوي أو الكتابي الذي أنتجه المغاربة من الأمازيغ حتى لا يخدشوا صورة الثقافة العربية والإسلام الخالصين؛ أو أنهم يُقدمون الشخصيات التاريخية والعلمية الأمازيغية بوصفها شخصيات عربية قحة فيصنعون لها سلالات تمتد عميقاً في إحدى الأورومات العربية الشريفة حتى يبينوا للناشئة عمق الانتماء العروبي الشرقي لكل الشخصيات الوطنية التي لا يتخيّلُها المتعلمُ إلا بوصفها أجنبيةً جاءت من مكان خارجي أو تنتمي سلالياً بشكل دائم إلى دمٍ خارجي؛ وللأسف فإن هذه المواقف التي تتعارضُ بشكل كلي مع كل نظريات التربية المؤسسة على مفاهيم التعدد والتنوع هي ما يؤسس لكل مناهجنا الدراسية بمختلف تجلياتها إلى الدرجة التي أصبحت فيها المدرسة المغربية من أكثر المدارس انغلاقاً في العالم ومن أكثر المدارس احتقاراً لذاتها الهوياتية وهذا بالرغم من كل ما يُقال عن انفتاحها واحتضانها للتعدد وانفتاحها على الغير؛ فهي لا تُنتج في النهاية إلا مواطنين محتقرين لذواتهم ورافضين لغيرهم ولا يجدون لهم مجداً إلا في تواريخ خارجية حيث يجتهدون ليصنعوا لهم منها نسخاً حضارية مطابقة للأصل.
وحتى نقف عند بعض تجليات هذه المواقف التي نعتبرها أعراضاً عن حالة من حالات تبخيس الذات الحضارية الوطنية، سأكتفي هنا بالوقوف عند ثلاثة أعراض، وهي التي أجملها في أعراض التبخيس التاريخي والحضاري، وأعراض التبخيس الثقافي والفكري، ثم أخيراً أعراض التبخيس الديني.

1-    أعراض التبخيس التاريخي

تتضمن هذه الأعراض ثلاثة أنواع على الأقل، يمكن إجمالها في تأكيد أغلبية المناهج على أجنبية التاريخ المغربي، ثم الصمت عن مراحل مهمة من التاريخ الحضاري المغربي، وأخيراً الشرعنة لتأبيد ثقافة الحرب ضداً على ثقافة السلام.

أ‌-       أجنبية التاريخ المغربي

تتجلى أعراض هذا التبخيس في كون الكتب المدرسية تُقدم التاريخ المغربي بوصفه تاريخاً أجنبياً وليس تاريخاً وطنياً؛ فكل هذه الكتب، خاصة التاريخية منها، تقدم أحداث ماضينا وحاضرنا بوصفها تواريخ فينيقية أو تواريخ رومانية أو وندالية أو عربية بالحصر إلخ؛ مما يُسقط المخططين التربويين في مآزق معرفية خطيرة أقلُّها الإيهام بأن التاريخ المغربي ليس في النهاية إلا نتاجاً للغزو الأجنبي استعماراً أو استيطاناً أو فتحاً إلخ وليس أبداً نتاجاً لفاعلية داخلية وتفاعل إيجابي مع المحيط؛ ونظراً لما تحملُه هذه الرؤية الاختزالية من أخطاء علمية ومعرفية فادحة فإنها لا تؤسس فقط للجهل المركب لدى الناشئة ولكنها تؤسس أيضاً لقيم احتقار الذات الوطنية التي أشرنا إليها؛ إذ ما معنى أن تحملَ الوحدات المتضمنة في كتب التاريخ مثلاً، وطيلة عقود طويلة، عناوين بارزة من نمط: " المغرب في عهد الفنيقيين" و"المغرب في عهد الوندال" و"المغرب في عهد الرومان"؟ إلخ. إن المعنى الواضح هنا (أو حكم القيمة) هو أن سكان هذه المنطقة لم يكن لهم وجود حضاري إلا تحت جناح الأجانب والغزاة والمستعمرين إلخ. وأنهم لذلك ونظرا إلى وضعهم المنحط لا يستحقون أن يُذكروا إلا بتغييبهم في المناهج الدراسية المغربية. ولكأن الخلفية "التربوية" التي ينطلق منها هنا منهاج التاريخ المغربي المُمارَس هو التأكيد على "الفراغ الحضاري" وعلى "الجاهلية الأمازيغية " قبل الإسلام لتبرير ملء هذا "الفراغ الجاهلي" في مرحلة الفتوحات وما بعد الفتوحات بالحضارة العربية الإسلامية التي هي الحضارة المشروعة والوحيدة والجديرة بالتماهي معها من طرف الأمازيغ؛ بمعنى أن المخططين إذ يؤكدون على فراغ هذه الفترة التاريخية أو يحطون من شأنها فإنهم بذلك يمهدون للمراحل التالية التي سوف يضفون عليها صفة المشروعية الوطنية القائمة على عراقة تاريخية مقطوعة الصلة بالماضي "البربري" غير المرحب به؛  ولذلك سيُصبحُ كلُّ الحديث في هذه الكتب عرضاً متواصلاً لإنجازات المستعمرين والفاتحين وصمتاً مدقعاً عن كل ما أنجزه أبناءُ الأرض.

وعندما نتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة ما قبل التاريخ سنلاحظ أن المؤلفين، مرة أخرى، يُخلصون لمنهجهم الإنكاري فيتجاهلون بشكل كلي تقريباً كل المكتشفات الأركيولوجية الحديثة التي تم اكتشافها بالمغرب أو بمنطقة شمال إفريقيا، ويركزون في المقابل على مختلف المكتشفات الشرقية؛ فلا حديث، مثلاً، عن ظهور الإنسان الإفريقي، ولا حديث عن اكتشاف الزراعة والنار وتدجين الحيوانات واستخراج المعادن واستعمالها وبناء القرى وتشكل ملامح الحضارة الجنينية منذ آلاف السنين بالمغرب إلخ. ولكن الحديثُ كل الحديث يظل منصباً على التاريخ الذي يأتي من خارج الجغرافيا الإفريقية بوصفه التاريخ الحقيقي والشرعي أو أيضاً تاريخ الانتماء (ما بين الرافدين، بابل، مصر، اليمن، فلسطين إلخ)، فترى المؤلفين يقتلون أنفسهم بحثاً عن اللقى السومرية والبابلية والفلسطينية والمصرية إلخ لتحديد الأزمنة الحضارية الأقدم، في الوقت الذي يضربون فيه صفحاً عن كل ما يتعلق بتاريخ الأرض التي ينتمون إليها. مما يلقي في روع أطفالنا أن التاريخ الشمال إفريقي وضمنه التاريخ الأمازيغي ليس في النهاية إلا وهماً أو سُبة وعارا تجبُ معاداته التحلّلُ منه أو على الأقل التستر عليه.

ب‌-   الصمتُ عن التاريخ الحضاري للمغاربة

لقد كانت أكثر مظاهر السُّبَّة والعار تلكَ التي تجلت في تجرؤ المؤلفين، ارتكازاً إلى المرجعيات والتعليمات التربوية الجديدة في الثمانينيات، على حذف "أصل المغاربة" من الكتب المدرسية، و"الحذف الكلي للعصور القديمة من مرحلة التعليم الأساسي"، خلال نفس الفترة، ثم السكوت عن الدول والمماليك التي أسسها الأمازيغ في مقابل تمجيد الدول والمماليك التي أسسها الشرفاء؛ فبعد أن كانت هناك إشارات إلى هذه الأصول وإلى تقديم بعض المراحل التاريخية الأقدم في البرامج السابقة أصبحَ التوجه هو "مركزةُ" التاريخ في الشرق من خلال استهلال "تاريخ المغرب بقدوم الفنيقيين إليه"؛ وأما في المرحلة الجديدة التي تنطلق بخطاب أجدير، أي المرحلة التي يُقال عنها مرحلة الاعتراف بالأمازيغية، فإن الملاحظ هو ظهور توجه جديد يركز على بعض الملامح التاريخية الأمازيغية ومن ضمنها الملامح المرتبطة بالممالك الكبرى كمملكة ماسينيسا ومملكة صيفكس ومملكة يوبا إلخ، لكن هذا التوجه- للأسف- لم يعمل في اتجاه التأكيد على أهمية هذه اللحظات التاريخية باعتبارها حلقات متواصلة لتاريخ مغربي عريق تشكل فيه اللحظة الراهنة امتداداً لها؛ بل جاءت فقط من أجل التأكيد على أحكام القيمة المسبقة التي تدعي أن هذه الممالك لم تكن سوى عبارة عن أمشاج قبائل متخلفة ومتناحرة وغير منظمة ولا مؤسسات لها ذات قيمة كبيرة ولم تكن لها القدرة أبداً على بناء دول أو تأسيس هوية مشتركة كالتي أسسها العربُ أو التي أسسها غيرُهم؛ وعلى هذا الأساس فإن الكتاب المدرسي لا يُقدم فحسب لأطفالنا معلومات خاطئة وإيديولوجية مبتسرة عن تاريخ المغرب، ولكن أيضاً يَصمتُ عن حقائق تمهيداً للحقيقة – الأدلوجة التي تؤكد أن الدولة المغربية الحقيقية لم تظهر إلا منذ 12 عشر قرناً، أي مع ظهور ما يسمونه الدولة الإدريسية؛ وترسخ هذه الحقيقة الإيديولوجية، بطبيعة الحال، مواقف قيمية أشرنا إليها مفادها أن الزمن الأمازيغي قبل الإسلام زمن لاحضاري ولم يكن بمقدوره أن يُنتج دولة؛ ولذلك يُطلبُ من المتعلم الصغير، ضمناً، أن يتخلّص من هذا التاريخ "الحقير السيء الذكر" عند أول منعطف تماماً كما نتخلّصُ من الكفر والعار وظلمات الجهل؛ ويتناسى هؤلاء أو يجهلون بحكم تكوينهم أن الممالك الأمازيغية كانت تشكلُ بالفعل دولاً وتتشابهُ في الكثير من تفصيلاتها المؤسساتية مع العديد من الإمبراطوريات التي كانت معاصرة أو سابقة أو تالية لها؛ بل إنهم يغطون على حقيقة مركزية هي كون هذه الممالك كانت أكبرُ بكثير مما يُسمونه هم دولاً كالدولة الإدريسية التي لم تكن، في النهاية، سوى إمارة صغيرة لا تتعدى حدودُها بعض القبائل القليلة التي كانت تمتد على مساحة منطقة مكناس وفاس، بل والتي كانت محاطة بقبائل أقوى منها وترتعد لها فرائسها.

إن الهدف، إذن، من تدريس التاريخ لناشئتنا ليس هو تقديم معطيات تاريخية وعلمية، وليس هو أيضاً، كما يؤكد على ذلك رجال التربية، "تدريبُ المتعلم على استعمال الأدوات المنهجية لمساءلة الماضي بفكر نقدي يستدمج نسبيتهُ حتى يُصبحَ مؤهلاً للتموضع زمنياً ومجالياً"، بل إن الهدف هو فبركة صورة مؤدلجة عن تاريخ مغربي يبرر التفاضلات الفئوية أو الدينية ويستنقص من التواريخ المحلية؛ وللأسف فإن هذا الاستنقاص لن يشمل فقط التاريخ ما قبل إسلامي، بل إنه سيشمل أيضاً التاريخ الأمازيغي في عهد الإسلام، إذ سيتم، مثلاً، السكوتُ بشكل مثير عن الدول والإمارات التي أسسها الأمازيغ في هذا العهد؛ وهكذا سيتمّ السكوت، مثلاً، عن دول الخوارج مثل دولة بني مدرار في سجلماسة، وسيتم السكوت عن الدولة البورغواطية على ساحل المغرب الأقصى التي استمرت لأكثر من أربعة قرون؛ كما سيتم السكوت أيضاً عن دولة الرستميين في تاهرت إلى غير ذلك من الدول والإمارات التي أثرت تأثيراً كبيراً في تاريخ المغرب والمغارب.


لم تكن الممارسات التربوية إذن تقدم تاريخاً وطنياً جامعاً تحضر فيه كل عناصره، ولكنها كانت وما تزال تُقدم تاريخاً فئوياً استيعابياً له امتدادات خارجية؛ فهو تاريخ غزوات وفتوحات لأنه مرتبط بالاستعمار الأجنبي أو بانتشار الإسلام؛ وهو تاريخ عربي لأن الإسلام نشره العرب وعربوا "البربر"؛ وهو تاريخ الشرفاء لأن أول دولة تأسست في المغرب تأسست على يد عربي شريف ومهاجر إلخ. وأما تاريخُ الأرض فلا وجود له. وتستقر في وعي الناشئة لكل ذلك قيمٌ غير متسامحة مع الآخر وغير ديموقراطية في التعامل معه؛ فما دام الأفضل قد تحدد تاريخياً فلا أهمية لكل المرجعيات والفلسفات التربوية التي يتم بها تسويدُ مواثيقُ التربية والتكوين وكتب التربية البيضاء والخطب الرسمية لرجالات الدولة. فعلى المغاربة للدخول في التاريخ الحقيقي أن يتخلصوا من جزء كبير من تاريخهم المحلي


ج- تأبيد ثقافة الحرب ضداً على ثقافة السلام

وتتجلى بعضُ مظاهر هذا التأبيد في تقديم التاريخ المغربي بوصفه تاريخ صراع أبدي ضد الغرب، وتاريخ سلم وسلام مع الشرق؛ إذ استناداً إلى الموقف الذي يعتبرُ المغرب جزءاً من الشرق، واستناداً إلى الموقف الذي يُشرعنُ لتبعية المغرب الأبدية لهذا الشرق؛ بل واستناداً كذلك إلى العداوة السرمدية التي تغذيها حاضراً القضية الفلسطينية تجاه هذا الغرب، سوف يتم تقديم التاريخ المغربي والمغاربي القديم كما لو أنه امتدادٌ للتاريخ المعاصر؛ وذلك بالشكل الذي يتحول فيه تاريخُ الأمازيغ القدامى إلى صورة طبق الأصل لصورة مسلمي مغرب العصر الحاضر؛ فهؤلاء، في جميع مراحلهم التاريخية، ظلوا، في مناهج وزارة التربية الوطنية، يعادون الغرب ويؤاخون الشرق. فلقد كانوا –كما تُقدمهم الكتب المدرسية- مقاومين أشداء للرومان ولكل الموجات الاستعمارية الآتية من الغرب، لكنهم كانوا، وبقدرة قادر، لطفاء جداً مع الفنيقيين والكنعانيين وكل المهاجرين والمستعمرين الذين جاءوا من الشرق؛ بهذا سيتم التّركيز على الحروب التي خاضوها ضد الغربيين دون لحظات السلم، كما أنهم سيسكتون عن الحروب التي خاضوها ضد الشرقيين ويركزوا على اللحظة الحضارية التي أغنى فيها هؤلاء الفنيقيين والكنعانيين ثقافة السكان الأصليين، إلى الدرجة التي ذهبت فيها بعض هذه الكتب إلى التأكيد على أن الكثير من
المظاهر الثقافية المنتشرة حالياً بالمغرب مثل الحناء والخميسة وغيرها إنما هي من الآثار القديمة التي تركتها الحضارة الفنيقية. ولا يذكر هؤلاء المؤلفون للأسف لا كيف أثر الأمازيغ في ديانة الفنيقيين وغيروها جذرياً ولا كيف أدمجوهم داخل الثقافة الأمازيغية وغيروا مرتكزاتها الأصلية ولا كيف كانوا يقدمون الضرائب للملوك الأمازيغ ويتمنون رضاهم ولا كيف كانت الحروب تندلع بينهم في أكثر من محطة إلخ.

هكذا إذن يُلقى في روع ناشئتنا بحقائق مُزيفة عن نوع العلاقات التي كانت تربط شعوب شمال إفريقيا بشعوب حوض الأبيض المتوسط؛ وهذا كله بهدف التأصيل، من جهة، لقيم العداوة السرمدية ضد الغرب؛ والتأصيل، من جهة ثانية، لحقائق إيديولوجية ترسخ التبعية الحضارية لمركز الشرق.

د- تجريم الماضي التاريخي الأمازيغي

ومن الأعراض التبخيسية أيضاً تلك التي نجد لها تجليات عدة في أكثر من محطة تاريخية؛ إذ أن المؤلفين لم يكونوا يقدمون التاريخ بهدف التاريخ أو بهدف بناء هذه الشخصية النقدية القادرة على موضعة ذاتها في الزمان والمكان كما أشرنا؛ ولكن كان الهدف الأساسي هو اقتلاعُها من هذا الزمان ومن هذا المكان لتلقي به داخل أزمنة أخرى وفي أمكنة جغرافية أخرى؛ ولكي يتحقق ذلك فإنه كان من الضروري تجريم هذا التاريخ أو على الأصح تجريم الأجداد الذين شاركوا في صنعه؛ ويمكن لنا في هذا الصدد تقديم لحظتين دالتين من لحظات هذا التجريم؛ أما اللحظة الأولى، فهي لحظة دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا؛ فقد قُدم تاريخ هذه الفترة بالشكل الذي يجعل الناشئة الأمازيغية تُحسُّ بنوع من الجُرْم التاريخي الذي ارتكبه أجدادُهم عندما قاوموا "الإسلام" وليس "غزوات الفتح"؛ مما يعني ضمناً دفعهم إلى الاعتذار عن كل ذلك "الجرم" بالدخول أفواجاً في عروبة الإسلام وإسلام العروبة ويتنصلوا بشكل نهائي من كل انتماءاتهم اللغوية والثقافية ويمجدوا كل الضباط الفاتحين ضداً على أجدادهم "الكفار السيئين". وأما اللحظة الثانية فهي لحظة إصدار ما سُمي بـ "الظهير البربري"؛ إذ شكلت هذه اللحظة أيضاً مناسبة لتحسيسهم بأنهم "يشكلون عقبة وعائقاً أمام الحفاظ على الوحدة الوطنية"، وأنهم باحتفاظهم بلغتهم وثقافتهم سيُخرجُهم "من حظيرة الإسلام"، وينفلتوا "من عقد البيعة الذي يربطهم بالسلطان" ويتمسحوا (يصبحون مسيحيين) بانعزالهم في محاكمهم العرفية المضادة لتعاليم الإسلام. وهكذا فإنه بقدر ما يُقدمُ التاريخ المغربي على كونه المجال المتعالي والمقدس من حيثُ كونه يؤسس لقيم الإسلام والوحدة الوطنية بقدر ما يؤسِّسُ هذه القيم وهذه الوحدة على تخوين فئة وتقديس فئة؛ لقد قدمت الكتب المدرسية مثلاً القياد وأعيان البوادي في مرحلة الحماية بوصفهم خونة لكون بعضهم وقف مع الاستعمار، لكنها لم تُقدم، بنفس الشكل، محميي المدن من العائلات الوطنية والذين حصلوا على الحمايات الأجنبية وظاهروا ضد السلطان وأوقفوا عنه كل الضرائب المشروعة ودخلوا في شراكات تجارية مع المستعمرين. وهكذا ففي الوقت الذي نلاحظ فيه انتقاء لبعض الأعلام الوطنية التي تنتمي إلى جهات وفئات محددة يلاحظ في المقابل غياب هذا الانتقاء عندما يتعلق الأمر بجهات أو فئات أخرى.

وإذا أضفنا إلى كل هذا أشكالاً أخرى من التبخيس التاريخي كذاك التي يمكن تسميته بالتبخيس اللفظوي، وذلك مثل الإلحاح لعقود طويلة على استعمال اسم "البربر" بدلاً من اسم "الأمازيغ"، ومثل حصر استعمال مصطلح "حضارة" على الحضارات الأجنبية دون الأمازيغية، والتركيز في الغالب الأعم على الحديث عن "القبائل" عندما يتعلق الأمر بالممالك الأمازيغية ثم قصْر مصطلح "الدولة" فقط على الدول التي أنشئت في الإطار الإسلامي والإيحاء بالأفضليات العرقية واللغوية من خلال التركيز على السلالات الشريفة وتمجيد إحدى اللغة الوطنية والسكوت عن الأخرى إلخ. كل هذا لا يؤسس للجهل المركب فقط كما أشرنا إليه سابقاً، ولكن يؤسس أيضاً لإنتاج مواطنين يحتقرون ذواتهم الحضارية أو جزءاً منها على الأقل، ويجتهدون لأن يتملّصوا منها عن طريق استلهام نماذج حضارية تُقدمُ لهم على أنها الأفضل والأحسن.

2-    أعراض التبخيس الثقافي والفكري

من أعراض هذا التبخيس أن منهاجنا يصمت بشكل مرعب عن كل المآثر الثقافية والفكرية التي أنتجها الأمازيغ؛ فسكوت المنهاج عن اللغة الأمازيغية لعقود طويلة وارتكازه، بالدرجة الأولى، على اللغة العربية الفصيحة (إلى جانب اللغة الفرنسية)، جعل المخططين التربويين يضربون صفحاً عن كل الغنى الثقافي المغربي العريق سواء في شقه الدارج أو في شقه الأمازيغي أو في شقه اليهودي؛ إذ اختفت الأعلام الفكرية والفلسفية والعلمية والأدبية إلخ التي أنتجتها التربة المغربية والمغاربية قبل الإسلام؛ كما أصبح الحديث عن مختلف المذاهب والتنظيمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية التي ظلت سائدة لقرون في المغرب كما لو أنه استعادة لعصر عبادة الأوثان؛ ولهذا سيتجه أغلبُ المؤلفين منذ الاستقلال إلى استعارة نصوص المشارقة التي تتحدث عن واقعهم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والتاريخي إلخ بل وتُقدم هذه النصوص في إطار بيداغوجي يوحي بأن الأمر يتعلق بنصوص تُعبر عن الثقافة الوطنية المغربية؛ في حين أنها نصوص لا تعكس بالمرة البيئة المغربية بما فيها من تعدد لساني وإتني وعنصري وطبيعي؛ فلا هي تحيلُ مثلاً على الطوبونيميا المغربية ولا هي تحيل على أشكال التضامن الاجتماعي من تويزا وغيره، ولا هي تُقدم الطقوس والعادات والاحتفالات والتواريخ الخاصة بالمغاربة في المدن والبوادي، وفي الجبال والسهول والصحراء؛ ونتيجة كذلك لهيمنة النموذج الجنسي الأبيض على المتخيل الجماعي للمؤلفين فإنهم عادة ما ينسون أو يتناسون ذوي البشرة السوداء والملونين أثناء تأليفهم؛ فيلاحَظُ نوع من غلبة الصور التوضيحية لذوي البشرة البيضاء على ذوي البشرة السوداء والملونين، تماماً كما تطغى الصور التوضيحية للفتيان على الصور التوضيحية للفتيات اللائي يُقدّمْنَ غالباً في أوضاعَ تقليدية (المطبخ إلخ) ومحجبات وفي أوضاع سلبية؛ عكس الفتى الذي يختار له المؤلفون أوضاعاً إيجابية تطغى عليها المواقف الذكورية.

وأمام الإلحاح المستميت للتأكيد على فرادة وتعالي الثقافة العربية الإسلامية يُلاحظ أن مناهج التعليم تنحو بشكل مفرط إلى الانغلاق على ما تسميه انتماءً عربياً للهوية المغربية، فتدير ظهرها بذلك لكل الثقافات المحيطة والبعيدة والتي منها الثقافات الإفريقية والآسيوية والأمريكية؛ إن تلامذتَنا لا يعرفون، مثلاً، أي شيء عن الثقافات والآداب السينغالية والمالية والسودانية والماليزية والصينية والكورية والبرازيلية إلخ فلا نصوص تتحدث مثلاً عن حكمة الأفارقة السود، ولا معارف تتحدث عن الفن الصيني العريق، ولا معلومات تبرز القيم الحضارية والإسلامية للماليزيين، أو القيم الفلسفية السامية للهنود، بل ولا إشارة إلى الحضارات العظيمة البائدة كحضارة الأثيوبيين وحضارة المايا إلخ. وهو ما يجعل هؤلاء التلامذة منغلقين داخل نموذج قيمي مسوّرٌ من جميع الجهات والزوايا، فلا يقدرون أبداً على تمثل قيم النسبية في إدراك الحقائق، لأنهم لا ينظرون إلى العالم إلا من زاوية واحدة. إن الحقيقة، بالنسبة لهم، واحدة ووحيدة وتأتي من زمن واحد وجغرافيا واحدة، وكل خروج عن هذا الزمن أو عن هذه الجغرافيا هو مروق من الحقيقة النهائية والأبدية والمتعالية. هكذا ننمي في أبنائها الإيمان المتطرف بالأشياء، وهكذا نسجنهم داخل ثنائية قيمية قاتلة: حضارة عربية إسلامية كاملة ومستغنيةٌ وتمتلكُ كل حقيقة الكون، وحضارة غربية كافرة وإمبريالية وناقصة تحتضن كل خطايا الكون؛ ثم لا شيء خارج هذا التعارض السرمدي، لأن هؤلاء الأبناء لا يعرفون عن العوالم الأخرى إلا ما يقع في أيديهم سهواً عن طريق وسائل التواصل الحديثة ودون أي توجيه بيداغوجي.

3-    أعراض التبخيس الديني

من تجليات هذا التبخيس أن الكتاب المدرسي المغربي يحملُ في طياته موقفاً ضمنياً وسلبياً من الديانات الأخرى؛ إذ نتيجة لتركيزه على الإسلام بوصفه آخر الديانات وأصحها فإنه يقع في بعض مطبات خلق الأفضليات الدينية (بوعي أو بدونه) التي توشكُ أن تدفع بالتلميذ المغربي إلى أن يكفر بها (أي بهذه الديانات)؛ فمن المعلوم أن الإسلام الذي يَعتبرُ اليهودية والمسيحية جزءاً من حقيقته وجوهره، على اعتبار أن كل الديانات السماوية هي امتداد لـ"ملة أبيكُمُ إبراهيم"، تُقدمُه له الكتبُ المدرسية كما لو أنه مناقض لها؛ إذ بالإضافة إلى الصمت المطبق الذي يلفها من حيث كونها لا تعرض للرموز الدينية لهاتين الديانتين ولا لأصولها وانتمائها إلى نفس الأب وإلى نفس القيم المشتركة التي تجمعها بالإسلام، يُلاحَظ من جهة أخرى أن المتعلمين لا يتمثلون القيم المسيحية واليهودية إلا من خلال الصراعات والحروب التاريخية، إما المعاصرة أو القديمة (الحروب الصليبية، الصراع الإسرائيلي –الفلسطيني إلخ)؛ ولذلك فإنهم يستنبطون إسلاماً مصارعاً لليهود والنصارى ولكل القيم الحديثة التي ينتمون إليها؛ إذ بالرغم من كل أدبيات الإطراء عن سماحة الإسلام تُمرَّرُ، للأسف وباسمه، قيمٌ مخالفةٌ للمناهج التي يعلن فيها المسؤولون عن قيم التسامح والانفتاح التي يريدون ترسيخها. وأمام هذا الوضع، بل ونتيجة له ستُصبح كل المعارف والقيم التي تعرفُها الناشئة متلبسة لبوس الصراعات السياسية والتدافع الحضاري الآني الذي تلعبُ فيه الرهانات المجتمعية أدواراً أساسية، ولكن مع ذلك نجدها مصطبغةً بصبغة المُقدّس، حيث يُصبحُ كلُّ تمادٍ في إعلان العداوة للآخر شكلاً من أشكال الانتماء والتشبّث بالقيم الإسلامية.

خلاصة القول

استناداً إلى هذا العرض المختزل للقيم والمعارف في المناهج التربوية المغربية يمكن التأكيدُ أننا نمارس تعليماً خارج الزمان والمكان؛ تعليماً يرفض قيم التعدد والتنوع والتسامح والتعايش وينقذف بكل حماسة في اتجاه بناء وطنية غير معترفة بالآخر الداخلي، وغير منفتحة على العالم الخارجي. ولذلك فنحن أبعد ما نكون عن بناء المواطن-الإنسان المنخرط في هذه القرية الإنسانية التي يسميها إدغار موران بـ"الهوية الأرضية". إن وطنيتنا لا تعترف بهويتنا إلا بوصفها عربية إسلامية، ولا ترسخ هذه الهوية إلا بوصفها هوية أجنبية وفئوية جاءت من خارج الأرض، وإلا بوصفها أيضاً هويةً أمميةً ترفض الانتماءات المحلية وتعادي القيم الغربية والكونية؛ ولذلك فهي بقدر ما تبالغ في المحو، (محو التاريخ القديم للمغاربة، الإزراء بالقيم والمعارف التي تم إنتاجها في هذا الإطار، الادعاء بأن الآخر لم ينتج لساناً ولا ثقافة ولا حضارة إلخ) بقدر ما تُبالغُ في تمجيد الذات المُفبركة وفي خلق تعارُضات حاسمةً ضد الآخر؛ وإذا كنا اليوم نعيش مرحلة فاصلة في مسار تعليمنا الوطني، فإن المؤكد أن إعادة النظر في مفهوم الهوية وعبره في مفهوم القيم وفي نوعية وحجية المعارف المقدمة، سيُشكل، في نظرنا، مدخلاً أساسياً إلى تجويد منظومتنا التربوية. إنه لا يُعقَلُ أن نستورد أحسن المناهج التعليمية ونغض الطرف عن الفلسفات التي أنتجتها؛ ولا يُعقل أن نُقدم كل أنواع المعارف لناشئتنا ونغض الطرف عن حجية هذه المعارف والتطورات العلمية التي عرفتها؛ كما أنه لا يُعقل أن نُجودَ في إخراج الكتب المدرسية ولكننا مع ذلك نملأها بكل القيم المتعارضة مع القيم الكونية التي ننخرط فيها؛ والأدهى من كل هذا هو أنه لا يُعقل أن أن نُقدم مشاريع مستعجلة وغير مستعجلة لتجويد منظومتنا التربوية بنفس العقليات ونفس مضامين التكوين التي اعتُمدت منذ الاستقلال؛ إن إعادة النظر في كل هذه الأشياء، تستدعي أولاً الاعتراف بهوية المتعلم الفردية باستدماج قيمه ومعارفه الشخصية والمحلية في مناهج الدراسة؛ وتستدعي ثانياً استدماج القيم والمعارف الوطنية من خلال الاعتراف بجميع مكوناتها؛ كما تستدعي أخيراً وضع كل هذه القيم وهذه المعارف في سياقها الكوني بما يكفل المصالحة مع الخصوصي والوطني والقطع مع مفاهيم الحضارات المؤسسة على تمايزات العداء ضد الآخر. هذه هي منطلقات التجويد؛ وهذه هي منطلقات التربية على مدخل القيم؛ وهذه هي منطلقات تنمية ذهنية منفتحة ونقدية وغير مأسورة في ماضٍ مُغلق لدى ناشئتنا؛ بل وهذه هي منطلقات الاعتزاز بهويتنا الدينامية المعترفة بماضيها والمنخرطة في حاضرها والمنفتحة على مستقبلها. ذلك المُستقبل الذي لن يستدعينا فقط للحفاظ على حدودنا الوطنية بل أيضاً للحفاظ على حدودنا الإنسانية بما يعنيه ذلك من خلق للمواطنة العالمية المنخرطة في الدفاع عن هويتنا الأرضية.  


*باحث بالمعهد الملكي للثقافة الامازيغية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Disqus for tech-lee